فصل: ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصة إبراهيم خليل الرحمن

هو إبراهيم بن تسارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏ هذا نص أهل الكتاب في كتابهم، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد، وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته‏.‏

وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من ‏(‏تاريخه‏)‏، عن إسحاق بن بشر الكاهلي، صاحب كتاب ‏(‏المبتدأ‏)‏ أن اسم أم إبراهيم أميلة، ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 161‏)‏

وقال الكلبي‏:‏ اسمها بونا بنت كربنا بن كرثى من بني أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏

وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان عمر تارخ خمساً وسبعين سنة، ولد له إبراهيم عليه السلام، وناحور، وهاران‏.‏

وولد لهاران‏:‏ لوط‏.‏ وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط‏.‏ وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار‏.‏

وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر، بعد ما روى من طريق هشام بن عمار، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول عن ابن عباس قال‏:‏ ولد إبراهيم بغوطة دمشق، في قرية يقال لها‏:‏ برزة، في جبل يقال له‏:‏ قاسيون‏.‏ ثم قال‏:‏ والصحيح أنه ولد ببابل، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه، إذ جاء معيناً للوط عليه السلام‏.‏

قالوا‏:‏ فتزوج إبراهيم سارة، وناحور ملكا ابنة هاران، يعنون بابنة أخيه‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت سارة عاقراً لا تلد‏.‏

قالوا‏:‏ وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حران فمات فيها تارخ، وله مائتان وخمسون سنة‏.‏ وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، وإنما مولده بأرض الكلدانيين، وهي أرض بابل وما والاها‏.‏

ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وهي أرض الكشدانيين في ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضاً، وكانوا يعبدون الكواكب السبعة‏.‏

والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي، ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال‏.‏ ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل بكوكب منها، ويعملون لها أعياداً وقرابين‏.‏

وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً، سوى إبراهيم الخليل، وامرأته، وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ أي كان أهلاً لذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 162‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16-27‏]‏‏.‏

ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41-48‏]‏‏.‏

فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة، وأحسن إشارة، بيـَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئاً، أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر‏؟‏

ثم قال منبهاً على ما أعطاه الله من الهدى، والعلم النافع، وإن كان أصغر سناً من أبيه‏:‏ ‏{‏يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ أي‏:‏ مستقيماً، واضحاً، سهلاً، حنيفاً، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده‏.‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ قيل بالمقال، وقيل بالفعال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 163‏)‏

‏{‏وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً‏}‏ أي‏:‏ واقطعني وأطل هجراني‏.‏

فعندها قال له إبراهيم‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصلك مني مكروه، ولا ينالك مني أذىً، بل أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيراً فقال‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أي لطيفاً يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً‏}‏ وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تعصني‏؟‏

فيقول له أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك‏.‏

فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد‏.‏

فيقول الله‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏.‏

ثم يقال‏:‏ يا إبراهيم ما تحت رجليك‏؟‏ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه في قصة إبراهيم منفرداً‏.‏

وقال في التفسير‏:‏ وقال إبراهيم بن طهمان، عن ابن أبي ذؤيب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان به‏.‏

وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ وفي سياقه غرابة‏.‏ ورواه أيضاً من حديث قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر، وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون تارخ، بالخاء المعجمة‏.‏ فقيل إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ والصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم‏.‏ وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 164‏)‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 165‏)‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75-83‏]‏‏.‏

وهذا المقام مقام مناظرة لقومه، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل لأنها مخلوقة مربوبة، مصنوعة مدبرة، مسخرة، تطلع تارة، وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو، ولا رب سواه فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب‏.‏

قيل‏:‏ هو الزهرة لذلك، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبين أنها مسخرة، مسيرة مقدرة مربوبة‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً‏}‏ أي طالعة‏.‏ ‏{‏قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78 -80‏]‏ أي‏:‏ لست أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل، بل هي مربوبة ومسخرة كالكواكب ونحوها، أو مصنوعة منحوتة منجورة‏.‏

والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران، فإنهم كان يعبدونها، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا‏.‏ كما ذكره ابن إسحق وغيره‏.‏ وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولا سيما إذا خالفت الحق‏.‏

وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم، وأهانها وبين بطلانها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ /166‏)‏

وقال في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51-70‏]‏‏.‏

وقال في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69 -83‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الصافات‏:‏

{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 83-98‏]‏‏.‏

يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان، وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها، فقال‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ معتكفون عندها وخاضعون لها‏.‏

{‏قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ‏}‏ ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد‏.‏

{‏قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره‏؟‏

وقال لهم‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ سلموا له أنها لا تسمع داعياً، ولا تنفع ولا تضر شيئاً، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال‏.‏

ولهذا قال لهم‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وهذا برهان قاطع على بطلان آلهية ما ادعوه من الأصنام، لأنه تبرأ منها وتنقص بها، فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لأثرت فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 167‏)‏

{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ‏}‏ يقولون‏:‏ هذا الكلام الذي تقوله لنا، وتنتقص به آلهتنا، وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقّاً جاداً فيه أم لاعباً‏؟‏

‏{‏قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً، وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء، فاطر السماوات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ‏}‏ أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها، بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم‏.‏

قيل‏:‏ إنه قال هذا خفية في نفسه، وقال ابن مسعود‏:‏ سمعه بعضهم‏.‏ وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال‏:‏ إني سقيم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏ عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم، ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي تستحق أن تكسر، وأن تهان غاية الإهانة، فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم، راغ إلى آلهتهم، أي‏:‏ ذهب إليها مسرعاً مستخفياً، فوجدها في بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها‏.‏

فقال لها على سبيل التهكم والازدراء‏:‏ ‏{‏أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ‏}‏ لأنها أقوى وأبطش، وأسرع وأقهر، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏ أي‏:‏ حطاماً، كسرها كلها‏.‏

{‏إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إنه وضع القدوم في يد الكبير، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار‏.‏ فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم ‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا من جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة ضلالهم وخبالهم‏:‏ ‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏}‏ أي‏:‏ يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدارء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها‏.‏

وعلى قول ابن مسعود‏:‏ أي يذكرهم بقولهوَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ‏}‏

{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه‏.‏

وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عبّاد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون‏:‏ ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 168‏)‏

فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا، ‏{‏قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏.‏‏.‏‏}‏ قيل معناه‏:‏ هو الحامل لي على تكسيرها، وإنما عرض لهم في القول‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 62-63‏]‏

وإنما أراد بقوله هذا، أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات‏.‏

{‏فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا‏:‏ إنكم أنتم الظالمون، أي‏:‏ في تركها لا حافظ لها، ولا حارس عندها‏.‏

{‏ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ‏}‏ قال السدي‏:‏ أي ثم رجعوا إلى الفتنة، فعلى هذا يكون قوله‏:‏ إنكم أنتم الظالمون، أي‏:‏ في عبادتها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أدركت القوم حيرة سوء، أي‏:‏ فأطرقوا ثم قالوا‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها‏؟‏ فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 66-67‏]‏

كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يسرعون‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف تعبدون أصناماً أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون‏.‏

{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وسواء كانت ما‏:‏ مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون‏.‏ وهذه الأصنام مخلوقة، فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله‏؟‏ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم، وهذا باطل، فالآخر باطل للتحكم، إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له‏.‏

{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 97-98‏]‏ عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبقَ لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته، ودينه وبرهانه كما قال تعالى‏:‏

‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 68-70‏]‏‏.‏

وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 169‏)‏

ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن، وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً، ثم ألقوه منه إلى النار قال‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار‏.‏ وقالها محمد حين قيل له‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 173-174‏]‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لما ألقي إبراهيم في النار قال‏:‏ اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏

ويروى عن ابن عباس، وسعيد بن جبير أنه قال‏:‏ جعل ملك المطر يقول‏:‏ متى أومر فأرسل المطر‏؟‏ فكان أمر الله أسرع‏.‏ ‏{‏قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ أي لا تضريه‏.‏

وقال ابن عباس وأبو العالية‏:‏ لولا أن الله قال‏:‏ ‏{‏وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ لأذى إبراهيم بردها‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شيء غيره‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان معه أيضاً ملك الظل، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار، وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم، فعن أبي هريرة أنه قال‏:‏ أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال‏:‏ نعم الرب ربك يا إبراهيم‏.‏

وروى ابن عساكر، عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته‏:‏ يا بني إني أريد أن أجيء إليك، فادعُ الله أن ينجيني من حر النار حولك، فقال‏:‏ نعم‏.‏ فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته، ثم عادت‏.‏

وعن المنهال بن عمرو أنه قال‏:‏ أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً، وأنه قال‏:‏ ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها، صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

فأرادوا أن ينتصروا فخُذلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتّضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغُلبوا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ‏}‏ وفي الآية الأخرى ‏{‏الأَسْفَلِيْن‏}‏ ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم برداً ولا سلاماً ولا يلقون فيها تحية ولا سلاماً بل هي كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنْهَا سَاءتْ مُسْتَقَرَّاً وَمُقَامَا‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 170‏)‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن موسى، أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكان ينفخ على إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن جريج‏.‏ وأخرجاه والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية، أن نافعاً مولى ابن عمر أخبره، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ فكانت عائشة تقتلهن‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت‏:‏ ما هذا الرمح‏؟‏ فقالت‏:‏ نقتل به الأوزاغ‏.‏ ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفيء عنه إلا الوزغ، فإنه جعل ينفخها عليه‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد من هذين الوجهين‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع، حدثتني سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة قالت‏:‏ دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحاً موضوعاً فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح‏؟‏ قالت‏:‏ هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا‏:‏

‏(‏‏(‏أن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفىء عنه النار غير الوزغ، كان ينفخ عليه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن جرير بن حازم به‏.‏

 ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية، وهو أحد العبيد الضعفاء

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 171‏)‏

يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد، الذي ادّعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة‏.‏

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار‏:‏ وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح‏.‏ قاله مجاهد‏.‏

وقال غيره‏:‏ نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏

قال مجاهد وغيره‏:‏ وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان‏:‏ ذو القرنين وسليمان، والكافران‏:‏ النمرود وبختنصر، وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغا وبغى، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا‏.‏

ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمله الجهل والضلال وطول الآمال، على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل‏:‏ ربي الذي يحي ويميت، قال‏:‏ أنا أحي وأميت‏.‏

قال قتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق‏:‏ يعني أنه إذا أُتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر‏.‏

وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع في الحقيقة‏.‏

فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيونات وموتها، هذا دليل على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده، ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولا بدّ من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب، والرياح، والسحاب، والمطر، وخلق هذه الحيونات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها‏.‏ ولهذا ‏{‏قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏‏.‏

فقول هذا الملك الجاهل‏:‏ أنا أحي وأميت، إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل‏.‏

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس، ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بين وجود الصانع، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة‏.‏

{‏قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ‏}‏ أي‏:‏ هذه الشمس مسخرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرّها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت، فات بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 172‏)‏

وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة، أو تنصر منها، فبـَّين ضلاله، وجهله، وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه، وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليل به، بل انقطع وسكت، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة، كانت بين إبراهيم وبين النمرود، يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ، فكانت بينهما هذه المناظرة‏.‏

وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام‏.‏

فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب؛ فملأ منه عدليه، وقال‏:‏ أشغل أهلي إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء، فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين، فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت منه طعاماً‏.‏

فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال‏:‏ أنى لكم هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من الذي جئت به، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل‏.‏

قال زيد بن أسلم‏:‏ وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً، يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه‏.‏ ثم دعاه الثانية فأبى عليه‏.‏ ثم الثالثة فأبى عليه‏.‏ وقال‏:‏

اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه، وجنوده، وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم، وتركتهم عظاماً بادية‏.‏

ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها‏.‏

 هجرة الخليل إلى بلاد الشام، ثم الديار المصرية، واستقراره في الأرض المقدسة

قال الله‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26 - 27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71-73‏]‏‏.‏

لما هجر قومه في الله، وهاجر من بين أظهرهم، وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب‏.‏

فكل نبي بُعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله وكرامة له، حين ترك بلاده، وأهله، وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه‏.‏

والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 173‏)‏

قاله أبي بن كعب، وأبو العالية، وقتادة، وغيرهم‏.‏

وروى العوفي عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏}‏ مكة، ألم تسمع إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وزعم كعب الأحبار أنها حران‏.‏ وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط، وأخوه ناحور، وامرأة إبراهيم سارة، وامرأة أخيه ملكا، فنزلوا حران، فمات تارح أبو إبراهيم بها‏.‏

وقال السدي‏:‏ انطلق إبراهيم ولوط قِبَلَ الشام، فلقي إبراهيم سارة، وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على أن لا يغيرها‏.‏ رواه ابن جرير وهو غريب‏.‏

والمشهور أنها ابنت عمه هاران، الذي تنسب إليه حران، ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط، كما حكاه السهيلي عن القتيبي، والنقاش، فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم، وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعاً، فليس له على ذلك دليل، ولو فرض أن هذا كان مشروعاً في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود، فإن الأنبياء لا تتعاطاه، والله أعلم‏.‏

ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل، خرج بسارة مهاجراً من بلاده كما تقدم، والله أعلم‏.‏

وذكر أهل الكتاب أنه لما قدِم الشام، أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس‏.‏

ثم انطلق مرتحلاً إلى التيمن، وأنه كان جوع، أي قحط، وشدة، وغلاء، فارتحلوا إلى مصر، وذكروا قصة سارة مع ملكها، وأن إبراهيم قال لها‏:‏ قولي أنا أخته، وذكروا خدام الملك إياها هاجر‏.‏ ثم أخرجهم منها، فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها، ومعه دواب، وعبيد، وأموال‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال‏:‏ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات‏:‏ ثنتان منهن في ذات الله، قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}

وقال‏:‏ بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له‏:‏ ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، وسأله عنها، فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قال‏:‏ أختي‏.‏

فأتى سارة فقال‏:‏ يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإنَّ هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية، فأخذ مثلها أو أشد، فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك‏.‏

فدعا بعض حجبته فقال‏:‏ إنك لم تأتني بإنسان، وإنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده مهيم فقالت‏:‏ رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره، وأخدم هاجر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 174‏)‏

قال أبو هريرة‏:‏ فتلك أمكم يا بني ماء السماء‏.‏ تفرد به من هذا الوجه موقوفاً‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عمرو بن علي الفلاس، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله‏:‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏‏.‏

وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلاً، فأتى الجبار فقيل له‏:‏ إنه قد نزل ههنا رجل، معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال‏:‏ إنها أختي‏.‏

فلما رجع إليها قال‏:‏ إن هذا سألني عنك، فقلت إنك أختي، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي فلا تكذبيني عنده، فانطلق بها، فلما ذهب يتناولها أخذ فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها، فقال‏:‏ ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأرسل ثلاث مرات، فدعا أدنى حشمه فقال‏:‏

إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فجاءت وإبراهيم قائم يصلي، فلما أحس بها انصرف، فقال‏:‏ مهيم‏.‏ فقالت‏:‏ كفى الله كيد الظالم، وأخدمني هاجر‏.‏

وأخرجاه من حديث هشام‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلم أسنده عن محمد، عن أبي هريرة، إلا هشام‏.‏ ورواه غيره موقوفاً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن حفص، عن ورقاء هو ابن عمر اليشكري، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله حين دعى إلى آلهتهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏‏.‏

وقوله لسارة أنها أختي، قال ودخل إبراهيم قرية، فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فقيل‏:‏ دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس، قال‏:‏ فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك‏؟‏

قال‏:‏ أختي‏.‏ قال فأرسل بها‏.‏

قال فأرسل بها إليه وقال‏:‏ لا تكذبي قولي، فإني قد أخبرته أنك أختي، إنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فلما دخلت عليه قام إليها، فأقبلت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر‏.‏ قال فغط حتى ركض برجله‏.‏

قال أبو الزناد، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنها قالت‏:‏ اللهم أن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال ثم قام إليها، قال فقامت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر، قال فغط حتى ركض برجله‏.‏

قال أبو الزناد، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنها قالت‏:‏ اللهم إن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال ثم قام إليها، قال‏:‏ فقامت توضأ وتصلي وتقول‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ الكافر، قال فغط حتى ركظ برجله‏.‏

قال أبو الزناد، وقال أبو سلمة، عن أبي هريرة أنها قالت‏:‏ اللهم إن يمت يقال هي قتلته، قال فأرسل، قال فقال في الثالثة، أو الرابعة، ما أرسلتم إليَّ إلا شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، قال فرجعت فقالت لإبراهيم‏:‏ أشعرت أن الله ردَّ كيد الكافرين، وأخدم وليدة‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط الصحيح‏.‏

وقد رواه البخاري، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 175‏)‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال، ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله، فقال إني سقيم، وقال بل فعله كبيرهم هذا، وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي‏.‏

فقوله في الحديث هي أختي، أي في دين الله‏.‏

وقوله لها إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك، ويتعين حمله على هذا، لأن لوطاً كان معهم، وهو نبي عليه السلام‏.‏

وقوله لها لما رجعت إليه مهيم، معناه ما الخبر، فقالت‏:‏ إن الله رد كيد الكافرين‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية الفاجر وهو الملك، وأخدم جارية‏.‏

وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك، قام يصلي لله عز وجل، ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت هي أيضاً، فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمراً قامت إلى وضوئها، وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ فعصمها الله، وصانها لعصمة عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله، إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة سارة، وأم موسى، ومريم عليهن السلام، والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن‏.‏

ورأيت في بعض الآثار أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه، وكان مشاهداً لها وهي عند الملك، وكيف عصمها الله منه ليكون ذلك أطيب لقلبه، وأقر لعينه، وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حباً شديداً لدينها، وقرابتها منه، وحسنها الباهر، فإنه قد قيل‏:‏ إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها، أحسن منها رضي الله عنها، ولله الحمد والمنة‏.‏

وذكر بعض أهل التواريخ، أن فرعون مصر هذا كان أخاً للضحاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملاً لأخيه على مصر‏.‏

ويقال‏:‏ كان اسمه سنان بن علوان، بن عبيد، بن عويج، بن عملاق، بن لاود، بن سام، بن نوح‏.‏

وذكر ابن هشام في ‏(‏التيجان‏)‏ أن الذي أرادها عمرو بن امرىء القيس، بن مايلون، بن سبأ، وكان على مصر‏.‏ نقله السهيلي‏.‏ فالله أعلم‏.‏

ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام، وعبيد، ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية‏.‏

ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك، إلى أرض الغور المعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً، كفاراً، فجاراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 176‏)‏

وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل، فأمره أن يمد بصره، وينظر شمالاً، وجنوباً، وشرقاً، وغرباً، وبشَّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض‏.‏

وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت، ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية‏.‏ يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام، فأسروه، وأخذوا أمواله، واستاقوا أنعامه، فلما بلغ أمواله، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقاً كثيراً، وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شرقي دمشق، وعسكر بظاهرها عند برزة، وأظن مقام إبراهيم إنما سمي لأنه كان موقف جيش الخليل، والله أعلم‏.‏

ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين، خاضعين، واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

 ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر

قال أهل الكتاب‏:‏ إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وأن الله بشره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام‏:‏ إن الرب قد أحرمني الولد، فادخل على أمتي هذه، لعل الله يرزقني منها ولداً، فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت منه‏.‏

قالوا‏:‏ فلما حملت ارتفعت نفسها، وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى إبراهيم فقال لها‏:‏ افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر فهربت، فنزلت عند عين هناك، فقال لها ملك من الملائكة‏:‏ لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 177‏)‏

وأمرها بالرجوع، وبشَّرها أنها ستلد ابناً وتسميه إسماعيل، ويكون وحش الناس يده على الكل، ويد الكل به، ويملك جميع بلاد إخوته، فشكرت الله عز وجل على ذلك‏.‏

وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه الذي سادت به العرب، وملكت جميع البلاد غرباً وشرقاً، وأتاها الله من العلم النافع، والعمل الصالح، ما لم تؤتَ أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته، ويمن بشارته، وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض‏.‏

ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام، قالوا‏:‏ وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة‏.‏

ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة، فخر لله ساجداً، وقال له‏:‏ قد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه، وكثَّرته، ونميته جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم‏.‏

وهذه أيضاً بشارة بهذه الأمة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيماً، هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏يكون اثنا عشر أميراً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال كلمة لم أفهمها، فسألت أبي ما قال، قال‏:‏ كلهم من قريش‏.‏ أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ لا يزال هذا الأمر قائماً‏.‏ وفي رواية‏:‏ عزيزاً حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش‏.‏ فهؤلاء‏:‏

منهم‏:‏ الأئمة الأربعة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏

ومنهم‏:‏ عمر بن عبد العزيز أيضاً‏.‏

ومنهم‏:‏ بعض بني العباس‏.‏

وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقاً، بل لا بد من وجودهم، وليس المراد الأئمة الاثني عشر الذي يعتقد فيهم الرافضة، الذين أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي، حين ترك القتال وسلَّم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة، وسكَّن رحى الحروب بين المسلمين‏.‏

والباقون من جملة الرعايا، لم يكن لهم حكم على الأمة في أمر من الأمور، وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس في الرؤوس، وهذيان في النفوس، لا حقيقة له، ولا عين، ولا أثر‏.‏

والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل، اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها، فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم‏.‏

ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعاً، فلما تركهما هناك، وولى ظهره عنهما، قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا، وليس معنا ما يكفينا، فلم يجبها، فلما ألحـَّت عليه وهو لا يجيبها قالت له‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ فإذاً لا يضيعنا‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب ‏(‏النوادر‏)‏ أن سارة تغضبت على هاجر، فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها، وأن تخفضها، فتبر قسمها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 178‏)‏

قال السهيلي‏:‏ فكانت أول من اختتن من النساء، وأول من ثقبت أذنها منهن، وأول من طولت ذيلها‏.‏

 ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة وبنائه البيت العتيق‏.‏

قال البخاري‏:‏ قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء‏.‏

ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء‏؟‏ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها‏.‏

فقالت له‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت‏.‏

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال‏:‏ يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه‏.‏

ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً‏.‏ ففعلت ذلك سبع مرات‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فلذلك سعى الناس بينهما‏)‏‏)‏‏.‏

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت‏:‏ صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت‏:‏ قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم‏)‏‏)‏‏.‏

أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً‏)‏‏)‏

فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 179‏)‏

وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً‏.‏

فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال‏:‏ وأم إسماعيل عند الماء‏.‏

فقالوا‏:‏ تأذنين لنا أن ننزل عندك‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، ولكن لا حق لكم في الماء‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال عبد الله بن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا‏.‏

ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه، قال‏:‏ فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام وقولي له‏:‏ يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏؟‏

فقالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة‏.‏

قال‏:‏ فهل أوصاك بشيء‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك‏:‏ غير عتبة بابك‏.‏

قال‏:‏ ذاك أبي وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى‏.‏

ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا‏.‏

قال‏:‏ كيف أنتم‏؟‏ وسألها عن عيشهم وهيئتهم‏.‏

فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة، وأثنت على الله‏.‏

فقال‏:‏ ما طعامكم‏؟‏

قالت‏:‏ اللحم‏.‏

قال‏:‏ فما شرابكم‏؟‏

قالت‏:‏ الماء‏.‏

قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه‏.‏ قال‏:‏ فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه‏.‏

فلما جاء إسماعيل قال‏:‏ هل أتاكم من أحد‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا بخير‏.‏

قال‏:‏ فأوصاك بشيء‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك‏.‏

قال‏:‏ ذاك أبي وأمرني أن أمسكك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 180‏)‏

ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد‏.‏

ثم قال‏:‏ يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال‏:‏ فاصنع ما أمرك به ربك، قال‏:‏ وتعينني، قال‏:‏ وأعينك، قال‏:‏ فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال‏:‏

فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}

ثم قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الله بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

لما كان من إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، وذكر تمامه بنحو ما تقدم، وهذا الحديث من كلام ابن عباس، وموشح برفع بعضه، وفي بعضه غرابة وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات‏.‏

وفيه أن إسماعيل كان رضيعاً إذ ذاك، وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل، وكل من عنده من العبيد وغيرهم، فختنهم وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة، وهذا امتثال لأمر الله عز وجل في أهله، فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب، ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال، كما هو مقرر في موضعه‏.‏

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم‏)‏‏)‏‏.‏

تابعه عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزناد‏.‏

وتابعه عجلان، عن أبي هريرة‏.‏

ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به‏.‏

وفي بعض الألفاظ‏:‏ اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم، والقدوم هو‏:‏ الآلة‏.‏ وقيل‏:‏ موضع، وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين، والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‏)‏‏)‏‏.‏

رواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏.‏

وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح، وأنه إسماعيل، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات، أولاهن‏:‏ بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم‏.‏

وقد ذكر أن الأرض كانت تطوى له، وقيل‏:‏ إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم، وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 181‏)‏

وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات، ومطرز بشيء من المرفوعات، ولم يذكر فيه قصة الذبيح، وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة الصافات‏.‏

 قصة الذبيح

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99-113‏]‏‏.‏

يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه، سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فبشره الله تعالى بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام، لأنه أول من ولد على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل‏.‏ وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، لأنه أول ولده وبكره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ أي‏:‏ شب، وصار يسعى في مصالحه كأبيه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ أي‏:‏ شب، وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل‏.‏ فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده‏.‏

هذا وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏رؤيا الأنبياء وحي‏)‏‏)‏‏.‏

قاله عبيد ابن عمير أيضاً، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً ورزقهما من حيث لا يحتسبان‏.‏

ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده، هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه، من أن يأخذه قسراً، ويذبحه قهراً‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل إبراهيم، فقال‏:‏ ‏{‏يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد، ولرب العباد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ قيل‏:‏ أسلما، أي‏:‏ استسلما لأمر الله، وعزما على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هذا من المقدم والمؤخر، والمعنى‏:‏ تله للجبين، أي‏:‏ ألقاه على وجهه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 182‏)‏

قيل‏:‏ أراد أن يذبحه من قفاه، لئلا يشاهده في حال ذبحه‏.‏

قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك‏.‏

وقيل‏:‏ بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقاً بالأرض‏.‏

و‏{‏أَسْلَمَا‏}‏‏:‏ أي سمى إبراهيم، وكبر، وتشهد الولد للموت‏.‏

قال السدي وغيره‏:‏ أمرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئاً‏.‏ ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم‏.‏

فعند ذلك نودي من الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا‏}‏ أي‏:‏ قد حصل المقصود من اختبارك، وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ الاختبار الظاهر البين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه‏.‏

والمشهور عن الجمهور‏:‏ أنه كبش أبيض، أعين، أقرن، رآه مربوطاً بسمرة في ثبير‏.‏

قال الثوري‏:‏ عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ هبط عليه من ثبير، كبش أعين، أقرن، له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم، فتقبل منه‏.‏

رواه ابن أبي حاتم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فذبحه بمنى‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ ذبحه بالمقام‏.‏

فأما ما روى عن ابن عباس أنه كان وعلاً، وعن الحسن أنه كان تيساً من الأروى، واسمه جرير، فلا يكاد يصح عنهما‏.‏ ثم غالب ما ههنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات‏.‏ وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم، والاختبار الباهر، وأنه فدي بذبح عظيم‏.‏ وقد ورد في الحديث أنه كان كبشاً‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، حدثنا منصور عن خاله نافع، عن صفية بنت شيبة، قالت‏:‏ أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا، قالت‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال‏:‏ مرة - إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قال‏:‏ إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي‏.‏

قال سفيان‏:‏ لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 183‏)‏

وهذا روى عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس‏.‏ وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل لأنه كان وهو المقيم بمكة، وإسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره، والله أعلم‏.‏

وهذا هو الظاهر من القرآن، بل كأنه نص على أن الذبيح، هو إسماعيل لأنه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏‏.‏

ومن جعله حالاً فقد تكلف، ومستنده أنه إسحاق إنما هو اسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولا سيما ههنا قطعاً لا محيد عنه‏.‏ فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة من المعربة بكره إسحاق، فلفظه إسحاق ههنا مقحمة مكذوبة مفتراة، لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر، إنما ذاك إسماعيل‏.‏

وإنما حملهم على هذا حسد العرب، فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز، الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإسحاق والد يعقوب وهو إسرائيل، الذين ينتسبون إليه، فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم، فحرفوا كلام الله وزادوا فيه، وهم قوم بهت، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏.‏

وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم‏.‏

وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الأحبار، أو صحف أهل الكتاب، وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم، حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز، ولا يفهم هذا من القرآن، بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل‏.‏

وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل وليس بإسحاق من قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فكيف تقع البشارة بإسحاق‏؟‏ وأنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له، هذا لا يكون، لأنه يناقض البشارة المتقدمة، والله أعلم‏.‏

وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ‏}‏ جملة تامة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ جملة أخرى ليست في حيز البشارة‏.‏ قال‏:‏ لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضاً إلا أن يعاد معه حرف الجر، فلا يجوز أن يقال‏:‏ مررت بزيد، ومن هو بعده عمرو، حتى يقال‏:‏ ومن بعده بعمر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 184‏)‏

وقال فقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ منصوب بفعل مضمر تقديره‏:‏ ووهبنا لإسحاق يعقوب، وفي هذا الذي قاله نظر‏.‏ ورجح أنه إسحاق، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ قال‏:‏ وإسماعيل لم يكن عنده، إنما كان في حال صغره هو وأمه بحيال مكة، فكيف يبلغ معه السعي، وهذا أيضاً فيه نظر، لأنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات راكباً البراق إلى مكة يطلع على ولده وابنه، ثم يرجع والله أعلم‏.‏

فمن حكى القول عنه بأنه إسحاق كعب الأحبار‏.‏

وروي عن عمر، والعباس، وعلي، وابن مسعود، ومسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومقاتل، وعبيد بن عمر، وأبي ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شقيق، والزهري، والقاسم، وابن أبي بردة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبي الهذيل، وابن سابط، وهو اختيار ابن جرير، وهذا عجب منه، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس‏.‏

ولكن الصحيح عنه، وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام‏.‏

قال مجاهد، وسعيد الشعبي، ويوسف بن مهران، وعطاء، وغير واحد عن ابن عباس‏:‏ هو إسماعيل عليه السلام‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه‏:‏ هو إسماعيل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سألت أبي عن الذبيح، فقال‏:‏ الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا‏:‏ الذبيح هو إسماعيل عليه السلام‏.‏

وحكاه البغوي أيضاً عن الربيع بن أنس، والكلبي، وأبي عمرو بن العلاء‏.‏

قلت‏:‏ وروي عن معاوية وجاء عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وكان الحسن البصري يقول‏:‏ لا شك في هذا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ عن بريدة، عن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة إذ كان معه بالشام، يعني استدلاله بقوله بعد العصمة ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏‏.‏

فقال له عمر‏:‏ إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت‏.‏

ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم‏.‏

قال‏:‏ فسأله عمر بن عبد العزيز‏:‏ أي ابني إبراهيم أمر بذبحه‏؟‏ فقال إسماعيل‏.‏ والله يا أمير المؤمنين‏.‏ وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم‏.‏

وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/185‏)‏